عالَمُ الأعمال متفائل جداً بشأن إمكانات الذكاء الاصطناعي. فقد أعلنت شركة الاستشارات «ماكينزي آند كو» في تقرير لها في 2023 أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي يستعد لإطلاق الموجة التالية من الإنتاجية»، مما يضيف قيمة بحجم اقتصاد المملكة المتحدة تقريباً إلى النمو العالمي كل عام. وخلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، توقع بعض الرؤساء التنفيذيين أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي سيتيح «إنتاجية مدعومة بالمنشطات»، على حد تعبير بيل ماكدرموت من شركة «سرفيس ناو». هذه الآثار الإيجابية ستكون بكل تأكيد محل ترحيب، بغض النظر عن الجدول الزمني الذي ستحدث فيه، ولكن الحقيقة هي أننا نشهد في الولايات المتحدة حالياً طفرة في الإنتاجية. وهذا ليس بسبب الذكاء الاصطناعي.
الطفرة الحالية لا تعزى إلى اتجاهات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، ذلك أن حوالي 5 في المئة فقط من الشركات تستخدم الذكاء الاصطناعي في إنتاج السلع والخدمات حالياً. وكما يقول عالِم الاقتصاد «إريك برينجولفسون»، فإن نموه قد يؤثر قريباً على أرقام الإنتاجية، بالنظر إلى أن الشركات تستثمر الوقت والمال في توسيع قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي. والواقع أن أحد التحولات في اقتصاد ما بعد الجائحة والذي من المرجح أنه يقود زيادة الإنتاجية الحالية في أميركا هو: الطفرة في إنشاء شركات جديدة عبر البلاد.
فمن الأمور الموثقة والمثبتة بشكل جيد هو أن ريادة الأعمال هي شريان الحياة بالنسبة لنمو الإنتاجية لأن هذه الشركات تجلب ابتكارات إلى السوق وتحفّز المنافسة، والتي بدورها تجبر الشركات الكبيرة الموجودة على أن تصبح أكثر إنتاجية أو تفقد حصتها في السوق. وقد أحصى مكتب الإحصاء الأميركي في 2023 قرابة 5.5 مليون طلب لإنشاء شركات جديدة، أي أكثر من أي عام آخر منذ أن بدأ تتبع هذه البيانات قبل عقدين من الزمن. وكانت هذه الزيادة بدأت في 2020، حينما قفزت طلبات إنشاء شركات جديدة بـ860 ألف طلب في عام واحد، وازدادت بمليون طلب آخر منذ ذلك الحين. هذا العدد المتزايد من الأميركيين الذين بدؤوا الاشتغال بمفردهم يأتي بعد انخفاض طويل في دينامية الأعمال التجارية في الولايات المتحدة.
فخلال العقود الماضية، ظل عدد الشركات الناشئة في الولايات المتحدة ينخفض بشكل مستمر تقريباً في وقت هيمنت فيه الشركات الأقدم والأكبر على المشهد الاقتصادي، وهو اتجاه ربطه الاقتصاديون بتوقف الإنتاجية. والحال أن زيادة الإنتاجية هي التي تحدد بشكل عام مسار النمو الاقتصادي للبلاد على المدى الطويل. فالكونجرس يمكنه أن يحفّز الاقتصاد من خلال زيادة الإنفاق، ولكن هذا التحفيز يكون مؤقتاً فقط، ويمكن أن يؤدي إلى تأجيج التضخم (كما رأينا مؤخراً).
ومن جانبه، يمكن لـ«الاحتياطي الفيدرالي» أن يعزز النمو من خلال خفض أسعار الفائدة، غير أنه يتعين عليه في نهاية المطاف رفعها مرة أخرى. غير أنه إذا كانت بيانات الإنتاجية الأخيرة تمثّل مؤشراً على أننا قد نكون وصلنا إلى بداية فترة طفرة أخرى على غرار تلك التي شهدناها في التسعينيات بسبب الاستخدام الواسع للإنترنت، فإن استمرارنا في هذا المسار ليس مضموناً على الإطلاق. وبدلاً من الانتظار والترقب، بوسعنا أن نزيد من احتمالات أن تؤدي هذه الموجة الجديدة من الشركات الناشئة إلى تحويل موجة الإنتاجية الحالية إلى طفرة طويلة الأمد من خلال ضمان حصول رواد الأعمال على الموارد اللازمة للنجاح والازدهار.
فريادة الأعمال هي المحرك الذي يحفز نمو الإنتاجية حينما تكون الشركات الناشئة قادرة على تحويل أفكارها إلى أعمال تجارية مجدية تجارياً وقادرة على دعم النمو. وعندما تموّل الحكومة الابتكار من خلال الشركات الناشئة، فإنها تستطيع تحفيز هذه العملية، مما يساعد الشركات التي لديها إمكانات أكبر على النجاح.
وأحد الأمثلة على نموذج التمويل الفعال هو «برنامج بحوث الابتكار للشركات الصغيرة»، الذي يقدّم منحاً تتراوح قيمتها بين 50 ألف دولار و250 ألف دولار لمساعدة الشركات خلال المراحل الأولى على تطوير تكنولوجيتها وتسويقها. هذه المنح تظل صغيرة مقارنة مع متوسط استثمار يناهز في المراحل الأولى 19 مليون دولار في أوائل 2023، ولكنها توفّر قيمة بالغة الأهمية في مساعدة هذه الشركات على الانطلاق، مما يضاعف احتمالات حصولها على تمويل من القطاع الخاص مستقبلاً.
والواقع أن توسيع مثل هذا البرنامج الفعال جداً قادر على تمويل نفسه بنفسه بالنظر إلى زيادة الإنتاجية الإجمالية وحدها. غير أنه بوسع صانعي السياسات أيضاً تسخير هذا النموذج التمويلي الذي أثبت جدواه لمساعدة الشركات الناشئة الحالية على حل أكبر التحديات التي تواجه بلادنا على الأمد الطويل، مثل أزمة الطاقة التي تلوح في الأفق. ولسنا في حاجة للنظر بعيداً جداً إلى الوراء بحثاً عن آخر مثال ناجح لهذا النموذج. فقبل 4 سنوات فقط، راهنت الحكومة على الشركات الناشئة من أجل ابتكار لقاحات لفيروس كورونا خلال «عملية السرعة القصوى».
وقد شهدت الولايات المتحدة 20 مليون طلب لإنشاء شركات جديدة منذ 2020، وهناك احتمال كبير أن تكون شركات مبتكرة وناجحة (على غرار «موديرنا» و«بايونتيك») من بينها في مجال الطاقة. العديد من الشركات الناشئة التي تُحدث ثورة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي اليوم هي جزء من هذه المجموعة أيضاً. وهذه الفرق تعمل بجد وتسعى جاهدة لابتكار أدوات يؤمن المديرون التنفيذيون بأنها ستعزز إنتاجية العمال مستقبلاً. ولكن أياً كانت المشاكل التي يواجهها رواد الأعمال اليوم، فإن التاريخ يُظهر أنهم يحفزون الابتكار ويرفعون الإنتاجية عبر مختلف قطاعات الاقتصاد. ولهذا، لنرحّب بالمؤشرات الصاعدة التي تؤشر إلى فترة جديدة من الدينامية الاقتصادية، ولنحوّلها إلى فترة جديدة من النمو الاقتصادي المستمر.
*مدير السياسات في مؤسسة «ذي آسبن إيكونوميك ستراتيجي جروب»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»